كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولكن الله سبحانه رحمة منه بعباده،- لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أُضلوا، وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف- كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعل شياطين الجن والإنس؛ الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط الضعف!..
رحمة من الله بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا؛ كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به؛ حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات، لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف، واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات. ولو كان الله يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات؛ ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها. ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة:
{وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون}..
يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله؛ وإلى ما أودعه الله كينونتهم من قوى البصيرة والإدراك.
فالرجعة إلى هذه المكنونات كفيلة بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب؛ وردها إلى بارئها الوحيد، الذي فطرها على عقيدة التوحيد. ثم رحمها فأرسل إليها بالآيات للتذكير والتحذير.
وكمثل للانحراف عن سواء الفطرة، ونقض لعهد الله المأخوذ عليها، ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها.. ذلك الذي آتاه الله آياته، فكانت في متناول نظره وفكره؛ ولكنه انسلخ منها، وتعرى عنها ولصق بالأرض، واتبع الهوى؛ فلم يستمسك بالميثاق الأول، ولا بالآيات الهادية؛ فاستولى عليه الشيطان؛ وأمسى مطرودًا من حمى الله، لا يهدأ ولا يطمئن ولا يسكن إلى قرار..
ولكن البيان القرآني المعجز لا يصوغ المثل هذه الصياغة! إنما يصوره في مشهد حي متحرك، عنيف الحركة، شاخص السمات، بارز الملامح، واضح الانفعالات؛ يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعة، إلى جانب إيقاعات العبارة الموحية.
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلًا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون}..
إنه مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات..
إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع.. ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخًا. ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه؛ فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه.. أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان؟.. ها هو ذا ينسلخ من آيات الله؛ ويتجرد من الغطاء الواقي، والدرع الحامي؛ وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى؛ ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم؛ فيصبح غرضًا للشيطان لا يقيه منه واق، ولا يحميه منه حام؛ فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه.. ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد.. إذا نحن بهذا المخلوق، لاصقًا بالأرض، ملوثًا بالطين. ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد.. كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى؛ والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر.. فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها.. مشهد اللهاث الذي لا ينقطع.. سمع التعليق المرهوب الموحي، على المشهد كله:
{ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلًا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون}..
ذلك مثلهم! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم. ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخًا. ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان، هابطون عن مكان الإنسان إلى مكان الحيوان.. مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين.
وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين؛ وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين!
{ساء مثلًا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون}..
وهل أسوأ من هذا المثل مثلًا؟ وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى؟وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟ وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟ من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي، ويدعها غرضًا للشيطان يلزمها ويركبها، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض، الحائر القلق، اللاهث لهاث الكلب أبدًا!!!
وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد؛ إلا هذا القرآن العجيب الفريد!!
وبعد.. فهل هو نبأ يتلى؟ أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيرًا. فهو من هذا الجانب خبر يروى؟
تذكر بعض الروايات أنه نبأ رجل كان صالحًا في فلسطين- قبل دخول بني إسرائيل- وتروي بالتفصيل الطويل قصة انحرافه وانهياره؛ على نحو لا يأمن الذي تمرس بالإسرائيليات الكثيرة المدسوسة في كتب التفاسير، أن يكون واحدة منها؛ ولا يطمئن على الأقل لكل تفصيلاته التي ورد فيها؛ ثم إن في هذه الروايات من الاختلاف والاضطراب ما يدعو إلى زيادة الحذر.. فقد روي أن الرجل من بني إسرائيل بلعام بن باعوراء، وروي أنه كان من أهل فلسطين الجبابرة. وروي أنه كان من العرب أمية بن الصلت. وروي أنه كان من المعاصرين لبعثه الرسول صلى الله عليه وسلم أبو عامر الفاسق وروي أنه كان معاصرًا لموسى عليه السلام. وروي أنه كان بعده على عهد يوشع بن نون الذي حارب الجبارين ببني إسرائيل بعد تيه الأربعين سنة على إثر رفض بني إسرائيل الدخول، وقولهم لموسى عليه السلام ما حكاه القرآن الكريم: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} كذلك روي في تفسير الآيات التي أعطيها أنه كان اسم الله العظيم الذي يدعو به فيجاب؛ كما روي أنه كتاب منزل وأنه كان نبيًا.. ثم اختلفت تفصيلات النبأ بعد ذلك اختلافات شتى..
لذلك رأينا- على منهجنا في ظلال القرآن- ألا ندخل في شيء من هذا كله. بما أنه ليس في النص القرآني منه شيء. ولم يرد من المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه شيء. وأن نأخذ من النبأ ما وراءه. فهو يمثل حال الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبين لهم فيعرفوها ثم لا يستقيموا عليها.. وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر؛ ما أكثر الذين يعطون علم دين الله، ثم لا يهتدون به، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه.
واتباع الهوى به.. هواهم وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم- في وهمهم- عرض الحياة الدنيا.
وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها. ويعلن غيرها. ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعًا!
لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول: إن التشريع حق من حقوق الله سبحانه من ادعاه فقد ادعى الألوهية. ومن ادعى الألوهية فقد كفر. ومن أقر له بهذا الحق وتابعه عليه فقد كفر أيضًا!.. ومع ذلك.. مع علمه بهذه الحقيقة، التي يعلمها من الدين بالضرورة، فإنه يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع، ويدّعون الألوهية بادعاء هذا الحق.. ممن حكم عليهم هو بالكفر! ويسميهم المسلمين! ويسمي ما يزاولونه إسلامًا لإ إسلام بعده!.. ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عامًا؛ ثم يكتب في حله كذلك عامًا آخر.. ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس، ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه..
فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقًا لنبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟ وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يحكيه الله سبحانه عن صاحب النبأ: {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}.. ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته. ولكنه سبحانه لم يشأ، لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يتبع الآيات..
إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله؛ فلم ينتفع بهذا العلم؛ ولم يستقم على طريق الإيمان. وانسلخ من نعمة الله. ليصبح تابعًا ذليلًا للشيطان. ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان!
ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع؟
إنه- في حسنا كما توحيه إيقاعات النبأ وتصوير مشاهده في القرآن- ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها. ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبدًا. والذي لا يتركه صاحبه سواء وعظته أم لم تعظه؛ فهو منطلق فيه أبدًا!
والحياة البشرية ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كل مكان وفي كل زمان وفي كل بيئة.. حتى إنه لتمر فترات كثيرة، وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مثله. فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم الله، ممن لا ينسلخون من آيات الله، ولا يخلدون إلى الأرض؛ ولا يتبعون الهوى؛ ولا يستذلهم الشيطان؛ ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان!.. فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده؛ وما هو بمحصور في قصة وقعت، في جيل من الزمان!
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات الله، كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها.
ثم ليبقى من بعده ومن بعدهم يتلى، ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئًا أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة؛ وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبدًا؛ وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو. فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة!
ولقد رأينا من هؤلاء- والعياذ بالله- في زماننا هذا من كان كأنما يحرص على ظلم نفسه؛ أو كمن يعض بالنواجذ على مكان له في قعر جهنم يخشى أن ينازعه إياه أحد من المتسابقين معه في الحلبة! فهو ما يني يقدم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم! وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثًا لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا!
اللهم اعصمنا، وثبت أقدامنا، وأفرغ علينا صبرًا، وتوفنا مسلمين..
ثم نقف أمام هذا النبأ والتعبير القرآني عنه وقفة أخرى..
إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته فيخلد إلى الأرض لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها؛ وأن يتبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه ويقوده من خطام هذا الهوى..
ومن أجل أن العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية، ليس العلم وحده لمجرد المعرفة؛ ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضًا..
إن المنهج القرآني لا يقدم العقيدة في صورة نظرية للدراسة.. فهذا مجرد علم لا ينشئ في عالم الضمير ولا في عالم الحياة شيئًا.. إنه علم بارد لا يعصم من الهوى، ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئًا. ولا يدفع الشيطان بل ربما ذلل له الطريق وعبدها!
كذلك هو لا يقدم هذا الدين دراسات في النظام الإسلامي ولا في الفقه الإسلامي ولا في الاقتصاد الإسلامي ولا في العلوم الكونية ولا في العلوم النفسية ولا في أية صورة من صور الدراسة المعرفية.